كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر الطبري من حديث بقية أَنبأَنا أبو بكر العنسى عن يزيد بن أبى حبيب ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع عن ابن عمر قال: قالت أُم سلمة: يا رسول الله، لا تزال نفسك في كل عام وجعة من تلك الشاة الْمسمومة التي أَكلتها؟، قال: «ما أَصابَنِى من شَيْء مِنْهَا إِلا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى وَآدَمُ في طِينَتِهِ».
وفى صحيح مسلم من حديث ابن عباس في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: «الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضَلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِى لهُ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
وفى صحيحه أيضًا عن زيد بن أرقم: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَ آت نَفْسِى تَقْوَاهَا، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا». وفى صحيحه أيضًا عن على رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاءِ الاستفتاح: «اللهم اهْدِنِى لأحْسَنِ الأَخلاق، لا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَ الأَخْلاقِ، لا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئهَا إِلا أَنْتَ»، وفى الترمذى والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أباه هذا الدعاء: «اللُّهُمَّ أَلْهِمْنِى رُشْدِى، وَقِنِى شرّ نَفْسِى».
وروى سفيان الثورى عن خالد الحذاء عن عبد الله بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب بالجابية خطيبًا فقال في خطبته: «مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ وَمَن يُضْلِلْ فَلا هَادِى لَهُ» وعنده الجاثليق يسمع ما يقول، قال: فنفض ثوبه كهيئة المنكر، فقال عمر: ما تقولون؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أنَّ الله لا يضل أحدًا، قال: كذبت يا عدو الله خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون قال: هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه. وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال: خلق الله الخلق فكانوا في قبضته، فقال لمن في يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن في يده الأُخرى: ادخلوا النار ولا أُبالى، فذهبت إلى يوم القيامة، وقال ابن عمر: جاءَ رجل إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر الله؟ فقال: نعم. قال: فإن الله قدره على ثم يعذبنى؟ قال: نعم يا ابن اللخناءِ، أما والله لو كان عندى إنسان أمرت أَن يجأَ أَنفك. وذكر عن علي رضى الله عنه أَنه ذكر عنده القدر يومًا فأَدخل إصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم بهما باطن يده فقال: أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أُم الكتاب. وذكر عنه أيضًا أَنه قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينًا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أَخطأَه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله.
وذكر البخارى عن ابن مسعود أنه قال في خطبته: الشقى من شقى في بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره. وقال ابن مسعود: لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد في يدى أحب إلى من أن أقول لشيءٍ قضاه الله: ليته لم يكن. وقال: لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث من بعد الموت، وقال الأعمش عن خيثمة عن ابن مسعود: إنَّ العبد ليهمّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر الله إليه من فوق سبع سمواتٍ فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنى إن يسرته له أدخلته النار. قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دهيت؟ أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله عز وجل.
وذكر الزهرى عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضًا شديدًا، واغمى عليه وأفاق فقال: أغمى على؟ قالوا نعم قال أنه أتانى رجلان غليظان فأخذا بيدى فقالا: أنطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فنطلقا بى فتلقهما رجل فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال: دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه.
وقال ابن جريج عن أنبأنا طاوس عن ابيه قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر.
وقال مجاهد: قيل لابن عباس: إن ناسًا يقولون في القدر: قال: يكذبون بالكتاب إن أحدث أحدهم شعرًا لاتصونه إن الله عزوجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فخلق القلم، فكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة، فإنه يجرى الناس على أمر قد فرغ منه وقال ابن عباس أيضًا: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضًا للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها.
وقال عطاء بن رباح: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: يا ابن عباس، أرأيت من صدنى عن الهدى وأوردنى دار الضلالة واردًا، إلا تراه قد ظلمنى؟ فقال: إن كان الهدى شيء كان لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك. قم ولا تجالسنى.
قال عكرمة عن ابن عباس: كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له: فكيف ذاك؟ الهدهدد ينصب له الفخ عليه التراب فقال أعضك الله بهن أبيك ن إذا جاء القضاء ذهب البصر.
وقال الإمام أحمد: أنبأنا إسماعيل، أنبأنا أبا هارون الغنوى، أنبأنا أبو سليمان الذدى عن أبى يحيى مولى بنى عفراء قال اتيت ابن عباس، ومعى رجلان من الذين يذكرون القدر- أو ينكرونه- فقلت يا ابن عباس ما تقول في القدر؟ فإن هؤلاء يسألونك عن القدر، إن زنى وإن سرق وإن شرب فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال: يا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبوون به، والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم، إن زنى بقدر، وإن سرق بقدر وإن شرب الخمر فبقدر.
وصح عن ابن عمر أن يحيى ابن يعمر قال له: إن ناسًا يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف فقال: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أن ابن عمر برئ منهم وأنهم براء منه، وقد تقدم قول أبي ابن كعب، وحذيفة وابن مسعود، وزيد ابن ثابت: لو أنفقت مثل جبل أحدًا ذهبًا في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار وتقدم قول عبادة ابن الصامت: لن تؤمن حتى تؤمن بالقددر خيره وشره، وتؤمن أنه ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك.
وقال قتادة عن أبى السوار عن الحسن بن على قال: قضى القضاء وجف القلم، وأمور بقظاء قد خلا.
وقال عمرو بن العاص: انتهى عجبى إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لقيه، ويرى في عين أخيه الفذة ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبها، ويكون في دابته الطفر قيقومه جهده ويكون في نفسه الطفر فلا يقومها.
قال أبو الدرداء: ذروة الإيمان أربع الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب.
وقال الحجاج الأزدى: سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر؟ فقال: أن تعلم إن ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وقال سلمان أيضًا: إن الله لم خلق أدم مسح ظهره فأخرج منها زرارى إلى يوم القيامة، وكتب الأجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر، وقال جابر ابن عبد الله: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار، والأثار في ذلك أكثر من أن تذكر، وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة.
فصل:
فالجواب: أن هاهنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بصاحبها إلى دار الشقاء.
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ماشاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، وهذه الأثاركلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه، وهذا في كل كتاب انزله الله على رسله.
وأما المقام الثانى: وهو مقام الهدى وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه النفس الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من أبليس، كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاق مغالبته حتى يقول قائل هؤلاءِ:
ما حيلة العبد والأقدار جارية ** عليه في كل حال أيها الرائي

ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له ** إياك إياك أن تبتل بالماء

ويقول قائلهم:
دعانى وسد الباب دونى فهل إلى ** دخولى سبيل؟ بينوا لى قصتي

ويقول الآخر:
وضعوا اللحم للبزاة ** على ذروتى عدن

ثم لاموا البزاة إذ ** خلعوا عنهم الرسن

لو أرادوا صيانتى ** سَتروا وَجْهَك الحسن

وقال بعضهم- وقد ذكر له ما يخاف من إفساده- فقال: لى خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره وصعد رجل يومًا على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلى من كل شيء، أنت حر لوجه الله. ورأى آخر رجلًا يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب المرأة وهى تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت، ورأى آخر رجلًا آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ الله وقدره. فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله، وكان إذا دعى به غضب، وقيل لبعض هؤلاء: أليس الله عز وجل يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] فقال: دعنا من هذا، رضيه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيره، ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة، وإنما مثلنا في ذلك كما قيل:
إذا مرضنا أَتيناكم نعودكم ** وتذنبون فنأْتيكم فنعتذر

وبلغ بعض هؤلاء أن عليًا مر بقتلى النهروان فقال: بؤسًا لكم، لقد ضركم من غركم. فقيل: من غرّهم؟ فقال: الشيطان، والنفس الأمارة بالسوءِ، والأمانى، فقال هذا القائل: كان على قدريًا، وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد. واجتمع جماعة من هؤلاء يومًا فتذاكروا القدر، فجرى ذكر الهدهد وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24] فقال: كان الهدهد قدريًا أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وجميع ذلك فعل الله. وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنْعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِى} [سورة ص: 75]: أيمنعه، ثم يسأله ما منعه؟ قال: نعم، قضى عليه في السر ما منعه في العلانية ولعنه عليه، قال له: فما معنى قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِم لَوْ آمَنُوا بِالله} [النساء: 39] إذا كان هو الذي منعهم؟ قال: استهزاءً بهم. قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتم} [النساء: 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه، بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه، وليس للآية معنى، وقال بعض هؤلاء- وقد عوتب على ارتكابه معاصى الله فقال: إن كنت عاصيًا لأمره فأنا مطيع لإرادته. وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه، فقال: إلى متى هذا اللوم؟ ولو خلى لسجد، ولكن منع. وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين: تبًا لك سائر اليوم، أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن؟ وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه، فلما رجع قال: كنت أصلح بين قوم فقيل له: وأصلحت بينهم؟ قال: أصلحت، إن لم يفسد الله. فقيل له: بؤسًا لك، أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك؟ ومُرَّ بلصّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها، وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده ما لا يطيقون ثم يعذبهم عليه؟ قال: والله قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم. وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودع أهله وبكى. فقيل: استودعهم الله واستحفظهم إياه. فقال: ما أخاف عليهم غيره، وقال بعض هؤلاء: ذنبة أذنبها أحب إلى من عبادة الملائكة. قيل: ولم؟ قال: لعلمى بأن الله قضاها على وقدرها، ولم يقضها إلا والخيرة لى فيها وقال بعض هؤلاء: العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسر الله في القدر. ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدًا، فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم في قدر الله.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لى: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنت وليًا للمحبوب أو عدوًا له؟ قال: فكأنما ألقم حجرًا. وقرأ قاريء بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75]، فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس ذلك لَكَانَ صادقًا، وقد أخطأ إبليس الحجة، ولو كنت حاضرًا لقلت له: أنت منعته، وسمع بعض هؤلاء قارئًا يقرأ: {وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ} [فصلت: 17] فقال: ليس من هذا شئ، بل أضلهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مخرقة يمخرق بها.
فيقال: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقًا الذين ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا نزهوه عما لا يليق به، وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤلاء خصماءُ الله حقًا الذين جاء فيهم الحديث: «يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ الله؟ فَيُؤمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ». قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
ويدعى خصوم الله يوم معاده ** إلى النار طرًا فرقة القدرية

سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا ** به الله أو ماروا به للشريعة

وسمعته يقول: القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية، والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وهم القدرية الشركية والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداءُ الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية. وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الحجر: 39]، ولم يعترف بالذنب يَبُوءُ به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباءَ به ونزّه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة، لأن النفاة إنما نفوه تنزيهًا للرب تعالى وتعظيمًا له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه وحوله ونحو ذلك، كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتى بطرّار أحول فقال له الوالى: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر- يعنى سوطًا- فقال له بعض الحاضرين ممن ينفى الجبر: بل ينبغى أن يضرب ثلاثين سوطًا خمسة عشر لطره، ومثلها لحوله. فقال الجبرى: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك، فبهت الجبرى. وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهى، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وقال تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَاءَ الرّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَاءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} [يس: 47]، فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.